بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 14 مارس 2010

بيـن الـدين والأخــلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

بيـن الـدين والأخــلاق

لطال ما شكي مشائخنا من الرواد الإسلاميين في القرن الماضي ، إبان التحول الجذري الذي حدث في الدنيا – من الانفصام النكد بين الدين والحياة- أي بين واقع الحياة الجديدة المتفلت من تعاليم الدين ، والمتدينين العاجزين عن التأثير في الحياة ، رغم أنه أحدا لا يشكك في صدقهم وإخلاصهم إلا أن واقع الحياة المختلف كلية عما عهدوه ، كان أقوى منهم ، ومن ثمة انسحبوا ، كنوع ارتكاب أخف الضررين ،لقد شكي روادنا من تلك الوضعية ، وأعملوا الفكرة والمجهر للخروج منها ، وقد وفقوا في ذلك إلى حد كبير وما التدين في صورته المعاصرة المنساح في كل مجال وركن من الحياة ، إلا ثمرة من ثمار جهادهم المبارك .

ولكن وبعد مضي تلك المرحلة فها نحن نشاهد فصاما جديدا ، من نوع آخر : فصام بين الدين والأخلاق ، وإن الأمر غريب ، ولولا وجوده واقعيا لما صدق أحد في إمكانه ، فمن جانب هناك فئة المتدينين القائمين بأمور إلى حد التزمت أحيانا ، إلا أنها لا تقيم وزنا لخلق الله ولا ترعى فيهم رحما ، ربما لأنهم – لرقة دينهم – ليسوا أهلا للإحسان .

ومن جانب هناك فئة لا تقيم كبير وزن – فيما يبدو- لشعائر الدين مع إيكال باطن أمرها إلى الله ، إلا أنها والحق يقال تقيم وزنا لأمر الأخلاق والمعاملة ، يلمس المرء ذلك منها لأول وهلة .

ومن المفيد أن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل تعداه إلى الصراع بين الفئتين وكل واحدة تشرع فيه سلاحها الخاص ، حتى ليصاب المراقب بالحيرة هل هو صراع بين حق وباطل أم بين باطلين أم بين حقين أم هو صراع جديد خارج عن تلك التقسيمات التي لا يتصور غيرها وما زاده حيرة عند ما يجد نفسه في وضعية استقطاب

هذه الوضعية غير الطبيعية ، والخطيرة ، جديرة بدراسة الوضع ، رجاء الوصول للحق فيه ، ومعالجته قبل أن يستفحل ، ويبلغ وضع اللاعودة وحاولت الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة قولية أو عملية ، وتعليقات بعض العلماء والمفكرين الذين عرضوا للموضوع. الناظر في القرآن الكريم يجده يقرن بصورة صارخة بين الإيمان والعمل الصالح والإيمان هو أساس الدين وينبوعه والعمل الصالح يضم ولا ريب الأخلاق وعبارة آمنوا وعملوا الصالحات ، ومشتقاتها كثيرة الورود في القرآن الكريم ونجد في مواضع ينفي أي اعتبار أو زن للعمل الصالح الذي لا أساس له من إيمان كقوله سبحانه : (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) ، (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) ومن الناحية الأخرى نجده يفند كل دعوى إيمان لا ينتج ثمرتها الطبيعية من العمل الصالح ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ...الآية وقوله (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ...الآية وينكر أشد الإنكار على أدعياء الدين بأقوالهم المخالفين بأفعالهم (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) ( يا أيها الذين لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ) يقول الأستاذ الشهيد سيد معلقا على الآية الأولى ..... والدعوة إلى البر والمخافة عنه في سلوك الداعين إليه هي الآفة التي تصيب النفوس الشّده لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات كافة ، وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جملا ويشهدون فعلا قبيحا فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ، وتخبوا في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ... ولا يعودون يثقون في الدين بعد أن فقدوا الثقة برجال الدين ، إن الكلمة التي تبعث ميتة وتصل هامة مهما تكن طنانة ورنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب مؤمن بها ،ولن يؤمن إنسان حقا بما يقول إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقوله ، عند ئذ يؤمن الناس ويسبق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق ...والمطابقة بين القول والفعل وبين العقيدة السلوك ليست مع هذا أمرا هينا ولا طريقا معبدا ، إنها في حاجة إلى رياضة وجهد (......)

إلى صلة بالله واستمداد منه واستعانة مهديه ، فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره ....

ومن اللافت أن القرآن الكريم في معرض الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم يركز على صفاته صلى الله عليه وسلم الخلقية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) وحسبك بشهادة أكبر الشاهدين وفي السنة نجد النبي صلى الله عليه وسلم يولي هذا الجانب اهتماما كبيرا بالغا ، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. وقوله صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا. وقوله صلى الله عليه وسلم : إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه . وقوله صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك . وهي إحالة إلى ما نعده حاليا بالضمير، إلى غير ذلك مما يطول سرده وعندما نطالع سيرته العطرة يجد أمورا مدهشة ككونه صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتصر لنفسه ولا يقبل السيئة بالسيئة بل يعفو ويصفح ، وكان بعيدا عن مظاهر الأبهة في كل أموره ، يتألم لبكاء الصغير أثناء الصلاة فيوجز فيها حتى أم الصغير له ، وتأخذ الجارية بيده الشريفة ليقضي بعض حوائجها ، ويمازح الصغار ويرفق بالنساء ويتحمل ضعفتهم ،ويأخذ لكل امرئ ما يصلحه ولكل موقف بما ينجحه ، وبذلك أحدث – بإذن الله – هذا التحول الهائل في أقل من أعصر الأمم على النظام والانقياد ونستفيد من كل ما مر أن الدين والأخلاق في الإسلام أمران لا ينفصلان ، أو وجهان لعملة واحدة ، كما يعبرون حديثا ، إذا فمن أين الخلل ، لماذا يوجد بين الملتزمين دينيا من لا يعبأ بأمر الأخلاق والعكس أيضا ،

فمن أفضل من تنبه لهذه الإشكالية وحاول تفسيرها : الأستاذ/ علي عزت بجوفيش في فصل : الأخلاق بدون إله من كتابه العظيم الإسلام بين الشرق والغرب، يقول: يقدم لنا الخبرة العملية في عالم الأخلاق كثيرا من الأمثلة على أخلاقية أناس لا يكترثون بتعاليم الدين أولا يؤمنون بالله , ليس في الأمر ثبات دائم ، بل يوجد انفصام بين العقيدة الإسلامية المعلنة وبين سلوك صاحبها ، فهناك أناس متمسكون بالدين تمسكا شديدا بل قد يكونون من العاملين في الدعوة الدينية ، ومع ذلك لا نجد سلوكهم يختلف في شيء عن سلوك الماديين العتاة ، والعكس أيضا صحيح ، فهناك أناس كثيرون منسوبون إلى التفكير المادي ومع ذلك يتمتعون بإخلاص شديد ومستعدون للمعاناة بل للنضال من أجل الآخرين ....

ليست هناك إذا علاقة (أوتوماتيكية) تلقائية بين عقدتنا وسلوكنا ، فسلوكنا ليس بالضرورة من اختيارنا الواعي ولا هو قاصر عليه ، إنه على الأرجح نتيجة التنشئة والمواقف التي تشكلت في مرحلة الطفولة ، أكثر من نتيجة (.....) الفلسفية والسياسية والواعية التي تأتي في مرحلة متأخرة من مراحل الحياة ، إذا تعلم شخص ما أن يحترم كبار السن وأن يحافظ على كلمته، وأن يحكم على الناس بصفاء ، وأن يحب الآخرين ويساعدهم ، وأن يقول الصدق وأن يكره النفاق ، وأن إنسان بسيطا أبيا إذا نشأ علي هذه الأخلاق الحميدة ، فستكون هي صفاته الشخصية ، بصرف النظر أفكاره السياسية الأخيرة،أو الفلسفية الاسمية التي يعتنقها،وقد يقول قائل إذا لا تصفون وتصفون الوضعية الحرجة ، هو أن الملتزم يجد من العقبات والمحن ، سواء المخالفات الدينية الصارخة في شتي مجالات الحياة وأينما يمم وجهه ، والتي لا يملك أما مها إلا ذوب القلب ،أو الإذاية التي يتعرض لها في نفسه ، معنوية أو مادية ، أو ما هو أسوأ من كل ذلك : رؤية الفساد التي تعج به الأرض ، والشقوة التي يعيشها البشر عموما ، والمآسي التي يعيشها بنو دينه وقومه خصوصا ، فلا غرو بعد كل ذلك أن يكون متبرما بالحياة وأهلها بل وحتى بنفسه ، فهل يلام بعد ذلك أن لا يملك زمام نفسه أحيانا عندما يبلغ الكرب منتهاه ، فيطلق نفثات من صدره .

وصلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق