بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 21 فبراير 2010

(( تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ))

بسـم الله الرحـمن الرحـيم

(( تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ))

قال الخازن : المعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنة ، والمنكر ضد ذلك وهو ما عرف بالعقل والشرع قبحه ([1]) . وقال في القاموس : المعروف ضد المنكر ، والمنكر ضد المعروف ([2]) . – عرف – وقال ابن فارس : العين والراء والفاء أصلان صحيحان يدل أحدهما : على تتابع الشيء متصلاً بعضه ببعض والآخر : على السكون والطمأنينة ، فالأول العرف : عرف الفرس وسمي بذلك لتتابع الشعر عليه … ، والأصل الآخر المعرفة والعرفان تقول عرف فلان فلاناً عرفانا ومعرفة وهذا أمر معروف ، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه لأن من أنكر شيئاً توحش منه ونبا عنه ، ومن الباب العَرْف : وهي الرائحة الطيبة وهي القياس لأن النفس تسكن إليه . ([3]) ، - نكر – وقال في نكر النون والكاف والراء أصل صحيح يدل على خلاف المعرفة التي يسكن إليها القلب ونكر الشيء وأنكره لم يقبله قلبه ولم يعترف به لسانه . ([4])

- نصوص الأمر بالمعروف النهي عن المنكر –

لقد ورد في ذلك كثير من النصوص من القرآن والسنة .

أولاً : من القـرآن .

1- قوله تعالى ) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ( ، وقال تعالى ) خذ العفو وأمر بالعُرْف وأعرض عن الجاهلين ( ، وقال ) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ( ، وقال ) لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( ، وقال ) فأنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذابٍ بئيس بما كانوا يفسقون(

ثانياً : من السـنة .

فالأول :عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((من أرى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم فبقلبه وذلك أضعف الإيمـان )) (رواه مسلم)

والثاني : عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) (رواه مسلم) .

الثالث : عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، واكن الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ))(رواه البخاري)

"القائم في حدود الله تعالى" معناه المنكر لها ، القائم في دفعها وإزالتها ، والمراد بالحدود : ما نهى الله عنه ، استهموا : اقترعوا .

الرابع : وعن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع قالوا يا رسول ألاَ نقاتلهم قال (لا ما أقاموا فيكم الصلاة) )) (رواه مسلم) . معناه : منك كره بقلبه ولم يستطع إنكاراً بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته ، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية ، ومن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي([5]) .

الخامس : عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )) ( رواه الترمذي وقال حديث حسن )

- حكـم الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر –

قال النووي " فليغيره " فهو أمر إيجاب بإجماع الأمـة ، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسـنة وإجماع الأمـة وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين ، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتمد بخلافهم كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين : لا يكترث بخلافهم في هذا فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافاً للمعتزلة ([6]) .

وقال القرطبي: ( أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغيير على كل من قدر عليه ، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك ، وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك ، قال والأحاديث هن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً ولكنها مقيدة بالاستطاعة . ([7]) ، وقال الشوكاني: ( وفي الآية يعني قوله تعالى ) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير … الآية ( دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها وركن مشيد من أركانها وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها .([8]) ، وقال الطبري: (( تأمرون بالمعروف)) فإنه يعني تأمرون بالإيمان بالله ورسوله والعمل بشرائعه (( وتنهون عن المنكر)) يعني وتنهوا عن الشرك بالله وتكذيب رسوله وعن العمل بما نهى عنه ، قال: وأصل المعروف كل ما كان معروفاً فعله جميلاً مستحسناً غير مستقبح في أهل الإيمان بالله ، وإنما سميت طاعة الله معروفاً لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله وأصل المنكر ما أنكره الله ورأوه قبيحاً فعله ولذلك سميت معصية الله منكراً ؛ لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ويستعظمون ركوبها . ([9]) ، وقال أبو حامد الغزالي: (رحمه الله) "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوى بساطه وأهمل عمله أ لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التّناد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، فإن لله وإنا إليه راجعون ، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه ، وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه فاستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم ، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم ، فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفِّلاً بعملها ، أو متقلداً لتنفيذها ، مجدداً لهذه السنة الداثرة ناهضاً بأعبائها ومتشمراً في أحيائها – كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء ستة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبداً بقُربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها . ([10]) ، وقال ابن العربي : ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام وهو أيضاً انتهاؤه ) ([11]) ، وقال القرطبي : ( إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانا وجبين في الأمم المتقدمة وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة ) ([12]) ، قال تعالى عن أنبيائه ) وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ( (سورة الأنبياء الآية "73") ، وقال الرازي : ( رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر ابلله والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان والزجر عن الكفر والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ([13]) ، وقال السرخسي: ( وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد سنام الدين وفيه أمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو صفة هذه الأمة زفيه تعرض لأعلى الدرجات وهو الشهادة ) ([14]) ، وقال الشاطبي: ( الجهاد شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مقرر بمكة ) ([15]) ، وقال النووي رحمه الله : ( اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جداً وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه ، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أو شك أن يعمهم الله تعالى بعقابه ) فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( ( النور الآية "63") ، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضى الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ، وعلى الآمر بالمعروف أن يخلص نيته ولا يهابنَّ من ينكر عليه لارتفاع مرتبته لأن الله تعالى قال ) ولينصرنَّ الله من ينصره ( (الحج الآية "40") وقال تعالى ) ومن يعتصم الله فقد هدي إلى صراط مستقيم ( (آل عمران الآية "101") ، وقال تعالى ) والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا ( (العنكبوت الآية "69") ، وقال تعالى ) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون ( ( العنكبوت الآية"2-3) ، واعلم أن الأجر على قدر النصب ، ولا يتركه أيضاً لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه ، فإن صداقته ومودته توجب له حرة وحقاً ، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته ، وينقذه من مضارها ، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدّى ذلك إلى نقص في دنياه ، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته ، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه ، وإنما كان إبليس عدواً لنا لهذا ، وكان الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها ، ونسأل الله توفيقنا وتوفيق أحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته ، وينبغي للآمر المعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب .

- أهمية استشعار جلال الله وإخلاص النية له في الأمر والنهي –

قال الغزالي (رحمه الله): ( فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين ، ولكنهم اتكلوا على فضل الله أم يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة ، فلما أخلصوا النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها ، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا ، وإن تكلموا لم تساعد أقوالَهم أحوالهم فلم ينجحوا ، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا ؛ ففساد الرعايا بفساد الملوك ، وفساد الملوك بفساد العلماء ، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه ومن استولى عليه حب الدنيا فلم يقدر على الحسبة على الأرذال فكيف على الملوك والأكابر. ) ([16]) ، وخرّج البيهقي في الشُّعَب بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا ينبغي لامرئ شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به ، فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقاً هو له . ) ([17]) .

- جواز اقتحام واحد على جمع –

قال الغزالي: ( لا خلاف أن المسلم الواحد يجوز له أن يهجم على صف الكفار يقاتل وإن علم أنه يقتل ، وكما أنه يجوز أن يقاتل الكفار وحتى يقتل جاز ذلك أيضاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .) ، وقال ابن النحاس: ( يجوز للمنكر بل يستحب أن يعرّض نفسه للضرب أو القتل إذا كان لإنكاره تأثير في رفع المنكرات ، أو كسر جاه الفاسق أو فيه تقوية قلوب أهل الدين .) ([18]) ، وروى الترمذي مرفوعاً وهو صحيح (( مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره )) وروى أبو يعلى وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم(5172) مرفوعاً (( لكل قرن من أمتي سابقون )) .

- خطورة السكوت عن المنكر –

قال ابن العربي: ( وهذا الفقه عظيم وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته ، ومنها ما يمهل بها إلى الآخرة ، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات ، وركوب الذل من الظلمة للخلق ) ([19]) .

- مسائل في الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر –

1-حِكَـم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاث حكـم :-

وهي كما ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كما يلي :-

الأولى : ( إقامة حجة الله على خلقه كما قال تعالى ) رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل( .

الثاني : ( خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت ) قالوا معذرة إلى ربكم …الآية( وقال تعالى ) فتول عنهم فما أنت بملوم ( فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملوماً .

الثالث: ( رجاء النفع للمأمور كما قال تعالى ) معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ( وقال تعالى ) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ( ([20]) .

2- (أحوال الرعية عند ارتكاب السلطان ما لا ينبغي)

واعلم أن أحوال الرعية عندما يرتكب السلطان ما لا ينبغي ثلاثة:-

1-( أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم ولو لم ينفع نصحه ، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف لأن ذلك هو مظنة الفائدة .

2-( ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره وتأدية نصحه لمنكر أعظم وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب وكراهة منكره والسخط عليه وهذه الحالة هي أضعف الإيمان .

3-( أن يكون راضياً بالمنكر الذي يعمله السلطان متابعاً عليه فهذا شريكه في الإثم لما روى عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع ، فقالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم قال "لا ما أقاموا الصلاة " ) (أخرجه مسلم في صحيحه) ، فقوله صلى الله عليه وسلم "فمن كره" يعني بقلبه ولم يستطع إنكاراً بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية ، ومن رضي بها وتابع عليها فهو عاص كفاعلها .) ([21]) .

- ضوابط في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –

(( الشريـعة مبنية على مصالح العباد ))

قال ابن القيم (رحمه الله) : ( هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهر التي في أعلى رتب المصلح لا تأتي به ، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتمّ دلالة وأصدقها ، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون ، وهداه الذي اهتدى به المهتدون ، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل ، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل ؛ فهي قرة العيون ، وحياة القلوب ، ولذة الأرواح ، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة ، وكل خير في الوجود فإنما مستفاد منها ، وحاصل بها ، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطُوي العالم ، وهي العصمة للناس وقوام العالم ، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا ، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وفي رفع العالم إليه ما بقي من رسومها فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفَلاح والسعادة في الدنيا والآخرة ، وإليك بعض الضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها:-

1- ( أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ، وهذا كالأذكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر ، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: " أفلا نقاتلهم " فقال (( لا ما أقاموا الصلاة )) وقال (( من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعنّ يداً من طاعته )) ، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر ؛ فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه ؛ فقد كان الرسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها ، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت وردّه على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد يكفر ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواءاً ، فإنكار المنكر أربع درجات :-

الأولى : ( أن يزول وبخلفه ضده ، الثانية : ( أن يقل وإن لم يزل بجملته

الثالثة : ( أن يخلفه ما هو مثله ، الرابعة : ( أن يخلفه ما هو شر منه ، فالدرجات الأوليان مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة ، فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه ما هو أحبّ إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك ، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاء وتَصْدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد ، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفزعهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك ، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً يكتب المُجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه كتب الأولى ، وهذا باب واسع ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول : مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي ، فأنكرت عليه ، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم .) ([22]) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم (( نهى أن تقطع الأيدي في الغزو )) (رواه أبو داود) ، فهذا حدْ من حدود الله تعالى ، وقد نهى عن إقامته في الغزو وخشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخير من لحوق صاحبه بالمشركين حبة وغضباً كما قاله عمرو أبو الدرداء وحذيفة وغيرهم وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو … وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى.) ([23]) . – وقد ذكر الونشريسي ثلاثـة ضوابـط للإصـلاح –

الأول: ( العلم بالمعروف والمنكر والجاهل لا يصح منه أمر ولا نهي لأنه قد ينهي عن المعروف ويأمر بالمنكر ، وقد نص بعض المتكلمين على أن المنهي عنه والمأمور به لا بد أن يكون مجمعاً عليهما بالأمر بالوجوب ، والنهي بالتحريم فيخرج المندوب وما اختلف في وجوبه ، وكذلك المكروه وما اختلف في تحريمه .

الثاني: ( الأمن من أن يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أكبر منه كمن ينهي عن شرب الخمر بحيث يؤول نهيه إلى قتل نفس ، فإن لم يؤمن ذلك لم يجر التغيير كما ذكر من أراد هدم الكنائس المسئول عنها فبتقدير أن يكون بقاؤها منكر لم يجر تغييرها إن كان ذلك يؤدي إلى القتل والقتال بين المسلمين فلا سبيل إلى تغييرها على أهلها وهم أهل الذمة وقد اتفق العلماء على تحريم قتال الذمبين ، وهم لم ينفضون العهد فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم …

الثالث: ( أن يعلم أو يقلب على ظنه أن إنكاره للمنكر مزيل له ، فإن لم يعلم ولا غلب على ظنه لم يجب التغيير ، والشرطان الأولان في الجواز والثالث في الوجوب ، فإذا عدم الشرط الأول والثاني لم يجز الأمر ولا النهي ، وإذا عدم الثالث ووجد الأول والثاني جازان بأمر وينهي .) ([24])

3-((تحصيل أعظم المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين))

ويقول ابن تيمية في ضوابط الإصلاح أيضاً :-

( إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتقوية أذاها ، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما ) ([25]) ، فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أو كدهما لم يكن الآخرة في هذه الحال واجباً ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة ، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة ، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمى هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر ويقال في هذا : ترك الواجب لعذر وفعل محرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة ، أو لدفع ما هو أحرم … ، ( وقد يكون الواجب في بعض المسائل العفو عن الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلاً لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعاً لوقوع تلك المعصية ، مثال ذلك أن ترفع مذنباً إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضرراً من ذنبه ، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر)([26]) ،

4-( التدرج في البيان والعمل بالشريعة )

ثم ذكر ما تقوم به الحجة على العباد فقال: ( والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين : بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله ، والقدرة على العمل به ، فأما العاجز عن العلم – كالجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهى ، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمر أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم – شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أماكن علمه والعمل به ولم تأت الشريعة جملة كما يقال : إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع ، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته ، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها ، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال ، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفوا عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى الوقت الإمكان كما عفى الرسول صلى الله عليه وسلم عما عفى عنه إلى وقت بيانه ، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتقاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فإن نافع ، ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط الأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل .) ([27]) .

- مسائل في المنكر الذي يغيَّـر –

1- (أن يكون متفقاً على أنه منكر)

2- (أن يكون ظاهراً من غير تجسس)

الأولى: (أن يكون متفقاً على أنه منكر)

قال الشيخ محمد علي: (من شرط التغيير أن يكون متفقاً عليه قال عياض في الإكمال ما نصه: لا ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يحمل الناس على مذهبه وإنما يغير ما اجتمع على إحداثه وإنكاره . اهـ ، وقال الشيخ مُحي الدين في منهاجه : أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ، وليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نص القرآن أو السنة أو الإجماع ونحو هذا في جامع الذخيرة القرَافي ، ونحوه في قواعد عز الدين . قال الشيخ الشيوخ ابن لبٍّ :لا سيما إن كان الخلاف في كراهية لا في تحريم فإن الأمر في ذلك قريب ربما يئول إلى الإنكار إلى أمر يحرم ([28]) ، وقال زكريا الأنصاري: ( ولا ينكر العالم إلا مجمعاً عليه أي على إنكاره لاما اختلف فيه إلا أن يرى الفاعل تحريمه لأن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد ولا نعلمه ولا إثم على المخطئ … ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره مجتهداً فيه وإنما ينكرون ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً ، ثم قال: ( لكن أن ندب على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف برفق فحسن إن لم يقع في خلاف آخر ، وترك أي وفي ترك سنة ثابتة لاتفاق العلماء على استحباب الخروج من الخلاف حينئذ. ) ([29]) .

الثاني: ( أن يكون المنكر ظاهراً )

قال النووي: ( وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن عثر على منكر غيّره جهده هذا كلام إمام الحرمين وقال أقضى القضاه ألماورديُّ ليس للمحتسب أن يحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب على الظن استتار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ظربان : أحدهما: ( أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها فيجوز في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث خدراً من فوات ما لا يستدرك وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار ، الضرب الثاني: ( ما قصر عن هذه المرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الإستار عنه ، فإن سمع أصوات الملاهي المنكره من داره أنكرها خارج الدار لم يهجم عليها بالدخول ، لأن المنكر ظاهر ، وليس عليه أن يكشف عن الباطن . ) ([30]) ، وقال ابن ناجي: ( ويشترط ظهور المنكر من غير تجسس والاستراق سمع ولا استنشاق ريح ولا بحث عما أخفى بيد أو ثوب أو حانوت فإنه حرام .) ([31]) .

- أمور لا تشترط في الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر -

الأولى منها: ( أنه لا يشترط أن يكون عدلاً) ، قال القرطبي: ( وليس من شرط الناهي أن يكون عدلاً عند أهل السنة خلافاً للمبتدعة حيث تقول لا يغير إلا عدل، وهذا إسقاط فإن العدالة محصور في القليل من الخلق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس ، فإن تشبثوا بقوله تعالى ) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ( وقوله ) كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ونحوه قيل لهم : إنما وقع الذم هاهنا على ارتكاب ما نهى عنه لا على النهي عن المنكر ، ولا شك في أن النهي عن المنكر عنه فمن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى. ) ([32]) ، وقال الحسن لمطرّف بن عبد الله: عظ أصحابك فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل ، قال يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر ، وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول: ( لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر . ) ([33]) ، وقال أيضاً: ( وقال حذاق أهل العلم : وليس من شرط الناهي أن يكون سليمان عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً ، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً ، قالوا لأن قوله ) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ( يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي .) ([34]) ، وقال النووي: ( قال العلماء ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان: 1) أن يأمر نفسه وينهاها 2) ويأمر غيره وينهاه فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخرة. ) ([35]) .

الثانية: ( لا يشترط فيه أن يكون من أصحاب الولايات)

قال النووي: ( قال العلماء ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائزة لآحاد المسلمين ، قال إمام الحرمين: ( والدليل عليه إجماع المسلمين فغن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاة .) ([36]) .

- حكم الإنكار إلى إذا تعدى الضرر للغير

- عدم تعدِّ الضرر للغير

إذا غلب على ظنه تعدى الأذى إلى غيره من أقاربه أو أصحابه أو رفقائه أو عموم المسلمين حرم الاحتساب ، ولو قدر زوال المنكر ، لأنه يفضي إلى منكر آخر وهو إلحاق الأذى بالآخرين وليس له أن يسامح في حق غيره ، قال ابن رجب: ( إن خشى في الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ من تعدي الأذى إلى غيره كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره .) ، وقال الغزالي: ( فإن كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها ، فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور ، نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس ، ولكن ينالهم الأذى بالسب والشتم فهذا فيه نظر ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها ودرجات الكلام المحذور في نكايته في القلب وقدمه في العرض.) وقال: ( وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة ، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه ، لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضي إلى منكر آخر وليس ذلك من القدرة في شيء ، بل لو احتسب لبطل ذلك المنكر ، ولكن كان ذلك سبباً لمنكر يتعاطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الإنكار على الأظهر ؛ لأن المقصود عدم مناكير الشرع مطلقاً لا من زيد أو عمرو .) ([37]) ، وقال عز الدين: ( وإذا حدث رد فعل سيء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فله نوعان: أحدهما: ( أن يصيب القائم به أذى والآخر ألا يضر نفسه ، ولكن تحدث مفسدة أخرى نحو أن يقتل رجل برئ أو يزيد مرتكب المنكر تمادياً وإصرار وغير ذلك ، أما النوع الثاني: ( من رد الفعل فقد أجمع العلماء على عدم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الوجه .) ([38]) ، وقال ابن تيمية: (( ولهذا قيل: وليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر ، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب ، والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح وقد أنني الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذم المفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم.) ([39]) ، وقال القرطبي: ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجى القَبول أو رجى رد الظالم ولو بعنف ما لم يخف الآمر ضرار يلحقه في خاصته أو فتنة يدخلها عن المسلمين إما بشق عصا ، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده .) ([40]) .

- أهمية الإصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –

قال مالك: ( وقال عمر بن الخطاب وهو يموت: اعلموا أنه لا يزال الناس مستقيمين ما استقامت لهم أيمتهم وهداتهم . ، قال محمد بن رشد: ( هذا بيِّن لأن الأئمة إذا كانت مستقيمة أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر فاستقام الناس باستقامتهم ، وإذا لم تكن مستقيمة لم تأمر بالمعروف ولا نهت عن المنكر فعم الناس الفساد ، وقال عبد الله ابن مسعود ما من عام إلا والذي بعده شر منه ولم تؤتوا إلا من قبل أمرائكم وليس عبد الله أنا إن كذبت ، وقال الله عز وجل ) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا اطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا. ) ([41]) .

- كراهة الشدة في الأمور "آداب في الأمر والنهي"

قال مالك: ( الغلظة مكروهة لقول الله عز وجل ) ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك (

- اغتباط الرجل بما يصيبه مما يؤجر عليه –

قال مالك: ( كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما أغبط رجلاً لم يصبه أذى في هذا الأمر ، قال ابن رشد: ( يريد بقوله في هذا الأمر بث العلم أن يصدع بالحق فيه وإن كره ذلك المقول له من الأمراء حتى يصيبه من قبله مكروه وأذى لأن الذي يصيبه في ذلك هو خير ساقه الله إليه .) ([42]) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يصب منه ) (رواه البخاري ومالك) .

(وصلى اللـه علـى نبيه الكريـم)



([1]) تفسير الخازن 1/281

([2]) القاموس 487،836

([3]) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/281

([4]) نفس المصدر 5/476

([5]) انظر رياض الصالحين صـ(94)ـ

([6]) صحيح مسلم بشرح النووي 2/21

([7]) تفسير القرطبي 4/51

([8]) فتح القدير 1/605

([9]) تفسير الطبري 5/676-677

([10]) الأحياء 2/333

([11]) أحكام القرآن لابن العربي 1/394

([12]) تفسر القرطبي 4/74

([13]) مفاتيح الغيب للرازي 4/521

([14]) شرح السير الكبير 1/19-20

([15]) الموافقات 3/50

([16]) الأحياء 7/92

([17]) وانظر تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لابن النحاس (صـ68ـ)

([18]) نفـسه ( صــ73ـ)

([19]) عارضة الأحوذي 9/15

([20]) أضواء البيان 2/176

([21]) انظر أضواء البيان للشيخ محمد الأمين 2/177-178

([22]) إعلام الموقعين 3/14-16 – المكتبة العصرية – بيروت 1407هـ

([23]) الإعـلام 3/17-18

([24]) المعـيار 2/223

([25]) الفتاوى 20/49

([26]) نفسـه 35

([27]) الفتاوى 20/36

([28]) حاشية محمد علي بهامش الفروق للقرافي 1/221- دار المعرفة

([29]) أسنى المطالب لزكريا الأنصاري شرح روض الطالبين 4/179

([30]) صحيح مسلم بشرح النووي 2/26

([31]) شرح خليل للخرشي 3/109

([32]) القرطبي 4/46

([33]) تفسير القرطبي 1/367-368

([34]) تفسير القرطبي

([35]) صحيح مسلم بشرح النووي 2/23

([36]) نفس المصدر 2/23

([37]) زهر البساتين 1/109

([38]) ميثاق الأذهان 1/50

([39]) الحسبة لابن تيمية ( صـ75ـ)

([40]) تفسير القرطبي 6/344-345

([41]) البيان والتحصيل لابن رشد 18/300

([42]) نفس المصدر 18/367

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق