بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 15 مارس 2010

قال تعالى { كتب على نفسه الرحمة }

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على نبيه الكريم

قال تعالى { كتب على نفسه الرحمة }

فهو سبحانه المالك لا ينازعه منازع ولكنه فضلا منه ومنة – كتب على نفسه الرحمة – كتبها بإرادته ومشيئته لا يوجبها عليه موجب ، ولا يقترحها عليه مقترح ، ولا يقتضيها منه مقتض إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة – وهي الرحمة قاعدة قضائه في خلقه ، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة....

والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقومات التصور الإسلامي فرحمة الله بعباده هي الأصل حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء ، وليميز الخبيث من الطيب في الصف وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، {وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة} .

والرحمة في هذا كله ظاهرة على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال، فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة ..... إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء ، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار.

ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي :-

ولكننا سنحاول أن نقف قليلاً أمام هذا النص القرآني العجيب { كتب على نفسه الرحمة}.

وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي { كتب ربكم على نفسه الرحمة } ، إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه .... تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده " تفضله سبحانه بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة مكتوبة عليه ، كتبها هو على نفسه وجعلها عهداً منه لعباده بمحض إرادته ومطلق مشيئته وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشرى لتميلّها وتأملها وتذوّق وقعها حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة ...

كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه – سبحانه – على نفسه من رحمته ، فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر لا يقل عن ذلك التفضل الأول!

فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلّغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى ؟ وأن يبلَّغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله ؟ من هم ؟ إلا أنه الفضل العميم ، الفائض من خلق الله الكريم؟ !

إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش كما يدعوا في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات ، أن تصور جوانبه وحواشيه!

ومثل هذه الحقائق ، وما تثير في القلب من مشاعر ، ليس موكولاً إلى تعبير البشري ليبلغ شيئاً في تصويره ، وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه لا لتعريفه ؟

وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكوّن جانباً أساسياً من تصور حقيقة الألوهية ، وعلاقة العباد بها......

وهو تصور جميل مطمئن ودود لطيف ، يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله !

على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة – فالتصور الإسلامي إذْ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية ، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه والذي يتْرع القلب بحلاوة مذاقه كما يروعه بجلال إيقاعه.

ورحمة الله تفيض على عباده جميعاً وتسعهم جميعاً ، وبها يقوم وجودهم وتقوم حياتهم ،وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات ، فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها ، ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة .

إنها تتجلى ابتداءً في وجود البشر ذاته في نشأتهم من حيث لا يعلمون وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم ، بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين .

وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان ، من قوى الكون وطاقته ، وهذا الرزق في مضمونه الواسع الشامل الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.

وتتجلى في تعليم الله للإنسان ، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة ، وتقدير التوافق بين استعداداته هذه وإيحاآت الكون ومعطياته هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله ، وهو الذي علمهم إياه ! وهو من رِزْق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك .

وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى ، كلما نسي وضل ، وأخْذه بالحلْم كلما لجّّّ في الضلال ، ولم يسمع صوت النذير ولم يصغ للتحذير وهو على الله هيّن ، ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمْهله ، وحلم الله وحده هو الذي يسعه .

وتتجلى في تجاوز الله – سبحانه- عن سيآته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.

وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها ، والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء ، ومحو السيئة بالحسنة – وكله من فضل الله ، فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته حتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما قال عن نفسه في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله.

والاقتصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها، وإعلان القصور والعيِّ عنها، هو أجدر وأولى، وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئاً ! وإن لحظةً واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لِقلب العبد المؤمن ، فيتصل به

ويعرفه ويطمئن إليه – سبحانه – ويأمن في كنفه ويستروح في ظله ...

إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجيز الطاقة البشرية عن تملِّيها واستجلائها فضلاً عن وصفها والتعبير عنها.

فلننظر كيف مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الرحمة بما يقرِّبها للقلوب شيئاً ما.

أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله الخلق " – وعند مسلم:" لما خلق الله الخلق " كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي " ، وعند البخاري في رواية أخرى " إن رحمتي غلبت غضبي " .

وأخرجا أيضاً مرفوعاً " جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " .

وأخرج مسلم مرفوعاً " إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم وتسعة وتسعون يوم القيامة".

وهذا التمثيل النبوي الموحي يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى، ذلك إذْ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها.

وصلى الله على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين

فقه الأخوة في الله

فقه الأخوة في الله

ولـيــد شـلـبي 28/6/1424
26/08/2003

نعيش في هذه الأيام تحديات شتى لعب أبرزها سيادة المادة في العلاقات الإنسانية ، الأمر الذي يتطلب أن نجــدد معه " فقه الأخوة في الله " لنعرفه، ونعمل به على مستويات العمل كلها، باعتباره الوقود الدافع لسفينة العمل الإسلامي، و الروح التي لن نستطيع الصمود بغيرها أمام تحديات العصر الراهنة على جميع أصعدة العمل الإسلامي.
أعني بـ" فقه الأخوة في الله" كيف نتعامل بعضنا مع بعض؟ وكيف يفهم بعضنا بعضاً؟ وكيف يعذر بعضنا بعضاً؟ وكيف يحب بعضنا بعضاً؟ يل وكيف نختلف بعضنا مع بعض، تحت مظلة الحب في الله؟.
إن العمل الإسلامي في حاجة ماسة لهذا الفقه حتى لا يتسع الخلاف بين أفراد الصف الواحد، وحتى لا تضيع جهودنا جميعاً، فالأخوة ليست شعاراً يرفع ولا كلمات تردد، ولكنها عمل وفعل وتطبيق، إنها نظام حياة، وتعاون، وتكامل، وتكافل، إنها المرآة التي يرى كل منا فيها نفسه بصراحة، وشفافية ووضوح، وهي اليد التي تغسل الأخرى.
فإذا وصلنا إلى هذا المستوى؛ نكون قد وضعنا أقدامنا على أول طريق النصر المأمول، ولنا في المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القدوة حين بدأ بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كخطوة أساسية وأولية بعد ترسيخ العقيدة والإيمان في النفوس.

أهمية الأخوة

الأخوة نعمة من الله على عباده المؤمنين لأنها رابطة يتعذر أن نجد مثلها في واقعنا المعاصر، فلا مصلحة ولا نفعاً مادياً من ورائها، إنما هي لله فقط، فهي أخوة بين القلوب و الأرواح برباط وثيق لا يمكن فصمه هو رباط العقيدة .
الأخوة من أوثق عرى الإيمان: وتحقيقها عبادة من أعظم العبادات، قال صلى الله عليه وسلم: " من أحب لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان "، وقال عليه الصلاة والسلام: " من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء، لا يحبه إلا لله عز وجل" .
وبها تُستجلب محبة الله تعالى: في الحديث القدسي" وجبت محبتي للمتحابين فيًّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ".
كما أنها سبيل إلى ظل عرش الله تعالى: فمن السبعة الذين يظلهم الله بظله " رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" .
ويقول سبحانه: (إنما المؤمنون إخوة) وإنما تفيد الحصر والمعنى: ليس المؤمنون إلا أخوة قال تعالى: ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم).
يقول صاحب الظلال: "ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة، فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية، الذلول بعضها مع بعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ، والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة – أو يمهد لحياة الجنة سمتها البارزة (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين). إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً، إنها حين تخالط القلوب تلين جاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق، فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفقة القلب؛ ترانيم من التعارف و التعاطف، و الولاء و التناصر، والسماحة و الهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب، ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب ....
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله، وتوقع على أوتاره ألحان الخلوص له والالتقاء عليه فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله ولا يقدر عليها إلا الله.
ولقد من الله على عباده - وهو يدعوهم للوحدة وعدم الفرقة – بهذه النعمة الكبرى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله به على الجماعة المسلمة الأولى، وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً.
وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة، وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخواناً، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، و الأطماع الشخصية، والرايات العنصرية، ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال" [الظلال بتصرف يسير].

حقوق الأخوة

الأخوة في الإسلام ليست من نوافل القول، بل هي أساس وعقيدة راسخة في النفس، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" (رواه البخاري ومسلم).
وقد روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن تسلم عليه إذا لقينه، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إن غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك".
و عن أنس- رضي الله عنه – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع من حق المسلمين عليك: أن تعين محسنهم، وأن تستغفر لمذنبهم، وأن تدعو لغائبهم، وأن تجب تائبهم" .
ولقد تكلم ابن تيمية عن (عقد الأخوة) هذا، وبين أن الحقوق التي ينشئها إذا كانت من جنس ما أقره النبي -صلى الله علية وسلم- في أحاديثه لكل مؤمن على المؤمنين فإنما هي: "حقوق واجبة بنفس الإيمان والتزامها بمنزلة التزام الصلاة و الزكاة و الصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهده ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة " [مجموع فتاوى ابن تيمية 11/ 101].

وسائل تنمية الأخوة

لتنمية الأخوة في الله وسائل كثيرة ومتعددة ونجمل منها هنا:
الحب في الله: فهذا أروع وأعظم أنواع الحب، أن يكون في الله ولله، فلا نفع ولا غرض دنيوياً وراءه، وفي الحديث القدسي: "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء" (رواه الترمذي).
سلامة الصدر: وسيلة في غاية الأهمية لتقبل ما يبدر عن الآخرين بدون حقد أو ضغينة أو سوء نية، وكذلك لحمل الأقوال والأفعال على معانيها الحسنة.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" (رواه البخاري).
وعن عبد الله بن عمرو " قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قيل صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه و لا بغي، ولا غل ولا حسد" (رواه ابن ماجة).
النصح و التواصي: إن المسلم لا يسير في طريق آمن لكنه يسير في طريق محفوف بالمكاره والمز الق والعقبات والفتن، وشياطين الإنس والجن له بالمرصاد؛ فهو أحوج في مثل هذا الطريق إلى من يأخذ بيده يرشده ويبصّره، ويذكّره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، وصدق الله العظيم إذ يقول: (والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

ولابد من أن نشير هنا لبعض آداب التواصي والنصح: كأن يكون سراً، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وبأسلوب رقيق، يقول بعض السلف" أد النصيحة على أكمل وجه واقبلها على أي وجه".
معرفة الفضل : قال تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) فمعرفة المسلم لفضل أخيه، بل ومحاولته البحث له عن فضل تجعله يحبه، ويتقبل منه، ويسمع له بدلاً من أن ينفر منه، ويتجنب لقاءه ، فإذا بحث كل واحد منا عن فضل لأخيه؛ فسوف يزدهر العمل، ويحس بقيمة أخيه وتأثيره و فضله.
المصارحة والمكاشفة: فهي تزيل عن القلب موانع تعطل تيار الأخوة مادامت تؤدى بطرقها السابق ذكرها، فلابد للمسلم من أن يصارح أخاه بما في صدره، فربما وجد عنده إجابة شافية تكفيه مؤونة الإرهاق الذهني والقلق، والتوتر الذي يؤثر حتماً على سلامة الصدر، وكذلك على المسلم أن يصارح بما يعتريه من تساؤلات أو شكوك دون أدنى حرج.
ولنا في الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأسوة في ذلك، ففي بيعة العقبة الثانية وقف أبو الهيثم بن التيهان يصارح و يكاشف، ويستفسر من الرسول -صلى الله عليه وسلم- عما يجول في نفسه؛ فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال – يعني اليهود – حبالاً ، وإنا لقاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك و تدعنا؟ قال كعب بن مالك: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "بل الدم الدم ، و الهدم الهدم، أنا منكم و أنتم مني، أحارب من حاربتم، و أسالم من سالمتم"، فهذه قمة المصارحة و المكاشفة حتى لما يجول في أغوار النفس، وقد تقبلها النبي -صلى الله عليه وسلم- برحابة صدر، وذلك درس في واجبات القيادة لتقبل المصارحة والمكاشفة بسلامة صدر، والعمل على إزالة ما قد يكون قد التبس على أذهان إخوانهم.
التسامح و التراحم: يجب أن يكون ديدن العاملين للإسلام هو التسامح و التراحم حتى لمن ظلمهم، فينبغي أن يعذر بعضنا بعضاً، وأن يسامح بعضنا بعضاً، وأن نتراحم فيما بيننا. وصدق الله العظيم إذ يقول: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران:159]. وفي الحديث "من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس" (رواه ابن ماجة) وفي رواية " من تنصل إليه فلم يقبل لم يرد الحوض" ( الطبراني ).

وسائل حماية الأخوة

إدراك أهميتها: على كل مسلم أن يدرك أهمية الأخوة، وأن يكون كل مسلم عمقاً استراتيجياً لأخيه؛ يحميه، ويؤازره، ويدرك أنه كثير بإخوانه مع إدراك الثواب الجزيل لهذه النعمة.

معرفة فقه الخلاف : نحن يمكن أن نختلف وأن تتباين وجهات نظرنا دون أن يحنق أحدنا على الآخر أو يحمل لأخيه أية ضغينة، بل نتبع القاعدة الذهبية لصاحب المنار التي تقول : " لنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".
استصحاب فقه الأولويات: فقد يكون رأيي صواباً ولكن هناك ما هو أولى منه في مرحلة ما، فإذا عرفنا ذلك عذرنا بعضنا بعضاً، وقوينا من أخوتنا وأعنا بعضنا بعضاً على المهام الموكلة لكل منا.
رفع سقف الخلاف: فينبغي أن نحسن الظن ببعض، وأن تتسع صدورنا للنقد البناء، وأن يعمل كل منا على احتواء الخلاف من جانبه، وكأنه هو المسؤول عن ذلك، وهذا لهدف أسمى وأرفع وأنبل، وهو إثراء روح الأخوة.
رفع مستوى الحوار: لابد من أن يحرص كل منا على نفس أخيه، و ألا يجرحه، وأن يراعي معه أدب الحديث، وألا تكون الأخوة مرادفاً لعدم الحرص في الحديث أو الابتذال فيه، أو زوال الفوارق السنية والاجتماعية، فلا بد من أن نرقى بأسلوب حوارنا، وأن يحترم كل منا الآخر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا".

ثمار الأخوة في الله وآثارها الطيبة

أولاً: على مستوى العمل الجماعي: لاشك في أن روح الفريق ستجعل من كل فرد شعلة نشاط يبذل كل ما في وسعه، ويأخذ بكل الوسائل لإنجاح ما يعد له "مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى".
كما سيعمل على تنفيذ ما أعد له هو وإخوانه؛ فسيكونون جميعاً على قلب رجل واحد لتنفيذ ما اتفق عليه، متناسين أي خلاف قد يكون نشأ في مرحلة ما.
ولا شك في أن أي صف يعمل الجميع به -قيادة وجنوداً- بقلب رجل واحد، متجردين لله ولا يرجون من إنسان جزاء ولا شكوراً، أقدر على تحقيق أهدافه كلها بإذن الله؛ فلقد حقق المسلمون الأوائل ما حققوه لعقيدتهم الراسخة وإيمانهم الوثيق بالله، ثم بأخوتهم التي أرساها المصطفي -صلى الله عليه وسلم- حين آخى بينهم.
كما تعزز الأخوة وحدة الصف بكل معانيها، كما قال تعالى : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص)، فروح الأخوة ستجعله صفاً واحداً يصعب اختراقه وتدميره.
ثانياً على المستوى الفردي: إن أول المستفيدين من روح الأخوة هو الفرد نفسه، إذ يستشعر أنه ليس وحيداً، وأن معه إخوانه يساعدونه على تقوى الله، وعبادته، وطاعته؛ فقد جاء في الحديث "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
كما سيجد فيهم خير الأصحاب؛ فهو إذا ذكر الله أعانوه، وإذا نسي ذكروه.
وعندما يختلط المسلم بإخوانه سيكتسب منهم خبرات، وتجارب متنوعة في شتى المناحي، وسيرتفع بذلك مستوى أدائه في المجالات جميعاً: دعوية، ودنيوية، ومهنية. قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى).
كما سيجد الفرد من بعض إخوانه -ولا أقول كلهم- قدوة حسنة، تقربه من ربه، وتزرع فيه خصالاً، يحاول الوصول إليها دون جدوى، وذلك من خلال معايشته لهم؛ بل سيقتدي بهم في مختلف الأحوال والأوقات؛ فيكتسب قدرات لا تقدر بثمن.
وتعين الأخوة الفرد على الثبات، ذلك أن من يسير في طريق الدعوة إلى الله يكون -بطبيعة الحال- عرضة لملاقاة الأذى، والابتلاء، والفتن، فالطريق محفوفة بالمكارة، مليء بالعقبات، والمسلم في حاجة لإخوانه، وقلوبهم معه، يعينونه على مكاره الطريق، ويتواصون معه بالحق.
ثالثاً: على مستوى المجتمع: المجتمع الذي يكون أعضاؤه على قدر كبير من المحبة و التعاون، ويعرف كل منهم حقوقه وواجباته، يكون في مستوى متميز، حتى لو كان هؤلاء الناس قلة؛ لأنهم سيكونون قدوة، وسيؤثرون في المجتمع، وسيتأثر بهم المجتمع، وسيرتفع مستواه الإيماني والعلائقي والثقافي .. إلخ، مما سيؤثر على إنتاجه في جميع المستويات والجوانب.
هذا المجتمع سيقف في وجه أشد الصعاب، فلقد صمد الصحابة في شعب أبي طالب، وأبلوا بلاءً حسناً، بإيمانهم ثم بأخوتهم الفذة، كما صمد المسلمون في المدينة أمام التحديات الداخلية والخارجية، وجاهدوا أفضل الجهاد.
واجهوا في بدر وأحد و الخندق أكبر التحديات، وكانت أكبر عدة لهم، بعد الله ثم إيمانهم الراسخ هي أخوتهم، ووحدة صفهم وتماسكه؛ فلقد ذاب كل واحد منهم في المجموع، فتشكلت قوة واحدة منهم يصعب اختراقها؛ بل كان النصر حليفها.
كما أن المجتمع المتحاب أفراده سيكون من القوة بمكان ليقف في مواجهة شتى التحديات، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر؛ لأن هذه المجموعات ستشيع هذه الروح في أسرها وجيرانها وأصدقائها من خلال فهمها الصحيح للإسلام، وبعملها به، فما بالنا لو كان المجتمع كله على هذه الدرجة العالية من الأخوة والحب في الله؟.


رابعاً: على مستوى غير المسلمين : حبنا لبعضنا بعضاً وأخوتنا وروابطنا الإسلامية العظيمة تثير غيظ أعداء الإسلام مهما حاولوا إخفاء ذلك؛ لأن هذا الجانب الروحي قل -إن لم ينعدم- في مجتمعاتهم المادية.
وإذا وجد أعداؤنا أننا على درجة عالية من الحب والأخوة سيهابوننا، أما تفرقنا وتشرذمنا الآن فهو برد وسلام على قلوبهم، قال سبحانه :(لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله).
و إذا رأى أعداؤنا فينا القوة والصلابة العقدية، والأخوة الملتحمة؛ فسيؤثر ذلك حتماً فيهم، ويضعفهم معنوياً، إذ كيف يحاربون مجتمعاً متحاباً متعاوناً على قلب رجل واحد؟
ومن جانب آخر؛ فإن غير المسلمين إذا وجدوا فينا الصورة المشرقة للإسلام ومثله العليا؛ فربما اتجهوا إلينا لأن الإسلام دين الفطرة.

فالواجب علينا إذاً أن نقدم لهم الصورة المشرفة للأخوة الإسلامية كما قدمها أسلافنا، وفتحوا بسلوكهم المتآخي كثيراً من بقاع العالم.
و الخلاصة: إذا ازدهرت شجرة الأخوة وترعرعت ونمت؛ فلابد من أن تنمو شجرة العمل وتزدهر، وتعطي حينها أطيب الثمار. ومن هنا علينا جميعاً -وعلى المخلصين العاملين للإسلام خاصة- أن يعملوا على ازدهار شجرة الأخوة ، وعلى حمايتها، وصيانتها من الهجمات الشرسة التي تعمل على اقتلاعها. إننا في حاجة لهذه الروح وهذا الفقه؛ ليسري في جسد الأمة، فتبعث فيه الحياة بعد طول رقاد.
إن على الدعاة وقادة العمل الإسلامي والمربين العملَ على غرس روح وفقه الأخوة في نفوس إخوانهم من خلال برامح عملية، وكذلك تأصيل هذه الروح وتجذيرها في النفوس، بدلاً من الاهتمام بتوسيع رقعة الانتشار والاهتمام بالكم على حساب الكيف، أو الاهتمام بتوسيع القاعدة على حساب تربيتها.
فلقد انتصر المسلمون في بدر وهم قلة مؤمنة تتمتع بقدر عال من التربية والأخوة، لكنهم انهزموا في حنين على كثرتهم، ذلك أن الكثرة قد تحوي الخَبث الذي سرعان ما ينزوي عندما يواجه محنة أو اختبار.
وأختم بهذه الكلمات الرائعة للشيخ محمد أحمد الراشد في كتابة الرقائق:
"وهكذا تكون الأخوة بين الدعاة هي الركن المهم في تربيتنا بعد الصلاة والتسبيح، وما من جزء من أجزاء الحركة الإسلامية يقذف بنفسه في ميدان العمل العام قبل إحلال معاني الأخوة الإيمانية في أعضائه إلا ذاق وبال تساهله وتفريطه، ولا مناص من أن تدرج بدايته على طرق الإيمان واستغلال دقائق الليل الغالية، ويكون فيه (أدب الأخوة) مترجماً في تناصح وتكافل وتحاب يجمع القلوب ويعلمها التحالم -إن لم يكن الحلم- عند إبطاء المقصر وتجاوز الملحاح، مثلما يعلمها المكافأة و الوفاء والشكر عند إسراع المبادر وعدل خفيض الجناح".

طريق الاعتبار في الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على نبيه الكريم

طريق الاعتبار في الحج

إن في كل واحد من أعمال المناسك تذكرة للمتذكر ،وعبرة للمعتبر إذا انفتح بابها

انكشف لكل خارج من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه وغزارة فهمه ،وقد شرف الله

البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه ونصبه مقصدا لعباده ،وجعل ما حواليه حرما لبيته

تفخيما لأمرهٍ .

فمن ذلك أن يتذكر بتحصيل الزاد زاد الآخرة من الأعمال ، وليحذر أن تكون أعماله فاسدة من الرياء والسمعة فلا تصحبه ولا تنفعه كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر فيبقى صاحبه وقت الحاجة متحيرا .

ٍفإذا فارق وطنه ودخل البادية وشهد تلك العقبات فليتذكر بذلك خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وما بينهما من الأهوال .

ومن ذلك أن يتذكر وقت إحرامه وتجرده من ثيابه لبس كفنه ،وأنه سيلقى ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا .

وإذا لبي فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال ((وأذن بالناس بالحج )) وليرج القبول وليخش عدم الإجابة .

وكذلك إذا وصل إلى الحرم ينبغي أن يرجو الأمن من العقوبة ،وأن يخشى أن لايكون من أهل القرب ،غير أنه ينبغي أن يكون الرجاء غالبا ،لأن الكرم عميم ،وحق الزائر مرعي وذمام المستجير لايضيع .

ومن ذلك إذا رأى البيت الحرام استحضر عظمته في قلبه وشكر الله تعالى على تبليغه رتبة الوافدين إليه ،وليستشعر عظمة الطواف به وتشبهه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله ،وأنه ليس القصد طواف الجسم فقط ،بل طواف القلب بذكر الرب

ويعتقد عند استلام الحجر أنه مبايع لله تعالى على طاعته ،ويضم إلى ذلك عزيمته على الوفاء بالبيعة .

وليتذكر بالتعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم لجأ المذنب إلى سيده وقرب المحب

وأنشد بعضهم في ذلك :

ستور بيتك نيل الأمن منك وقد _ علقتها مستجيرا أيها الباري

وما أظنك لما أن علقت بها _ خوفا من النار تدنيني من النار

وها أنا جار بيتك أنت قلت لنا _ حجوا إليه وقد أوصيت بالجار

ومن ذلك إذا سعى بين الصفا والمروة ينبغي أن يمثلها بكفتي الميزان ،وتردده بينهما في عرصات القيامة ،أو تردد العبد إلى دار الملك إظهارا لخلوص خدمته ،ورجاء الملاحظة بعين رحمته ،وطمعا في قضاء حاجته .

وأما الوقوف بعرفة فاذكر بما ترى فيه من ازدحام الخلق ، واتفاع أصواتهم ، واختلاف لغاتهم موقف القيامة ،واجتماع الأمم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين القبول والرد ،

وفي تذكر ذلك إلزام القلب الضراعة والابتهال إلى الله تعالى ،ورجاء الحشر في زمرة الفائزين المرحومين وتحقيق الرجاء بالإجابة

فإذا رميت الجمار فاقصد بذلك الانقياد للأمر وإظهار الرق والعبودية ،ومجرد الامتثال من غير حظ النفس ،والتمرد على أوامر الشيطان وقصم ظهره .

قال ابن عباس رضي الله عنه :لما أمر إبراهيم بذبح ابنه عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ،ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ،ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ،ثم مضى إبراهيم لأمر ربه .القرطبي :15/106

وصلى الله على نبيه الكريم